ليتك تشق السماوات وتنزل - إشعياء 64: 1 – 12


ليتك تشق السماوات وتنزل

إشعياء 64: 1 – 12

القس أبو أسد

 

المقدمة:

كم من الأمور من حولنا التي يمكن تَتَسبَّب في نزع السلام من حياتنا؟ كم من الأشياء والأحداث والظروف تجعلنا نصرخ إلى الله بيأس لا نعرف إلى أين سينتهي بنا المطاف؟

يتكلم في سفر إشعياء عن شعب إسرائيل الذين تركوا الله وكسروا عهده معهم وعبدوا آلهة أخرى وعبدوه بالشفاه بينما القلب فمبتعد عنه تماماً. ويتكلم عن دينونة الله للشعب بالسبي إلى بابل نتيجة خطاياهم. وهذا ما حصل بعد 150 سنة من نبوة إشعياء في القرن السادس (587) ق.م.

كان السبي حدث عظيم أدّى إلى إحداث هزة حقيقية في حياة شعب الله في ذلك الوقت. وبسبب السبي لم يعد شعب إسرائيل يرى إلا الظلمة والمستقبل الخالي من الخير والرجاء. لقد عانى الشعب بسبب السبي الإحباط الشديد الذي جعله يشعر أن تاريخه كأمة قد انتهى.

يبدأ في 63: 7-64: 12 قصيدة رثاء على حال الشعب. يذكر في (7:63) أمجاد الأيام الأولى، أيام خير الأمة ومسيرة الله معهم. ثم يتحدث عن الآلام التي أصابتهم. وفي المرثاة سؤال موجه إلى الله بسبب تخليه عن إسرائيل. لكنه في النهاية يؤكد اتكاله على الله الذي يمنح الخلاص.

في 63: 15 صلاة حتى ينظر الله من السماء، في 64: 1 صرخة شوق وتظرُّع إلى الله من قلب اليأس حتى "ينزل من السموات" ويتدخل لخلاص شعبه. ومن هنا حديثنا: "ليتك تشق السموات وتنزل":

 

i.           صرخة شعب يائس

الصورة المظلمة واليائسة التي نتكلم عنها تُعَبِّر عن شدة الألم. وإشعياء يُقدم حاجة الشعب الملحّة وسط هذا اليأس إلى الله لـ"يشق السموات وينزل". فالشعب بعدما أخطأ وأفسد في مسيرته مع الله، أدرك في النهاية حاجته الكاملة إلى تدخُّل الله. وأدركوا أنهم عاجزون عن تخليص أنفسهم.

ومن هنا جاءت صرختهم كصلاة، "ليتك تشق السموات وتنزل." وحتى تكون هذه الصلاة فاعلة في حياة الشعب الذي كان يأسه هو نتيجة خطيته، يجب أن يعترف بخطيته وأعماله. فهم حصدوا نتائج ما زرعوه من تعدي على الله وعدم طاعة. لذلك يقول في (آ5-6): "أخطأنا ... وقد صرنا كنجسٍ وكثوب عِدَّةٍ كلُّ أعمالِ برِّنا وقد ذبُلنا كورقةٍ وآثامُنا كريح تحملُنا."

نرى في هذه الكلمات صورتين لتوبة الشعب عن خطاياهم وآثامهم:

أولاً، صورة أعمال البر الذاتي والتي هي "كثوب عِدَّة" أي ثوب نجس وقذر لا يصلح لشيء إلا لأن يُلقى خارجاً. لقد أدرك الشعب أنه جميع أعماله لن تفيده لأنها لم تصدر بدافع برّ حقيقي في القلب، وإنما من أناس خطاة متكلين على تقواهم الشخصية.

واليوم ما زال الناس والمسيحيون يعتقدون أن أعمالهم الصالحة هي الشيء المهم الذي لأجله يقبلهم الله، والتي ستجعلهم مقربين إليه. ولكن، حتى نخلص من الخطية ونتائجها من جهة، ومما تسببه مشاكل الحياة وهمومها من جهة أخرى، نحتاج أن لا نعود ننظر إلى أعمالنا واستحقاقنا الشخصي. عندها فقط نستطيع أن نصلي ونطلب من الله أن ينزل من السماء ليمنح الرحمة والبركة والغفران والشفاء والحياة والرجاء...

ثانياً، أنهم بسبب خطاياهم وعدم اتكالهم على الله أصبحوا مثل الورقة الذابلة المعرضة للريح حتى تحملها بسهولة. هذا هو حال الإنسان الذي لم يجعل الله مُتَّكله والذي اتكل على الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة. سيكون كورقة ذابلة سقطت عن غصنها تحملها الريح وينساها العالم.

** تقدم هذه الآيات اعترافاً عميقاً بالخطية، واتكالاً كامل على رحمة الله. هذا مهم جداً حتى يستطيع الشعب أن يصلي إلى الله لـ"ليشق السماوات وينزل،" وحتى يسدد حاجته الملحة ويخلصه من يأسه.

 

ii.          انتظار الله

عندما يلتجئ القلب اليائس إلى الله، فهو يجب أن يثق فيه. وهذا ما يتكلم عنه في (آ4ب): "لم ترَ عينٌ إلهاً غيرَكَ يصنعُ لمن ينتظرُهُ." فالله يعمل في حياة أولئك الذين ينتظرونه - ويعمل من أجلهم.

تُعبِّر هذه الكلمات عن موقف مهم يجب أن نتخذه أمام حاجتنا إلى الله، تلك الحاجة التي نتجت بسبب يأسنا وفشلنا الذي تسببه الخطية. فبعد أن ندرك ضعفنا وخطيتنا ونتوب عنها ونطلب الله حتى يتدخل في حياتنا، يجب أن نؤمن وأن ننتظر ونتوقع أن الله سيتمم عمله الصالح في حياتنا ويتمم مواعيده لنا.

والانتظار الذي نتحدث عنه يشبه الانتظار في قاعة انتظار المستشفى. بينما ينتظر الزوج والجدود بالأشواق والترقب في خارج غرفة الولادة حتى يسمعوا الأخبار المفرحة لميلاد هذا الطفل العزيز. وانتظارنا لله يجب أن يكون بهذا الشكل وبهذه الأشواق وهذه الثقة. وهذا يعني أن نبقي حياتنا مفتوحة إلى الله الذي يصنع كل الخير.

تكلمنا عن اليأس، واليأس أمر ليس غريباً عن أي إنسان. ويُعبِّر اليأس عن نفاذ القوة والإمكانيات، ويعبر عن احتياج عميق في النفس إلى تغيُّر الظروف وحلّ للمشاكل وسماع خبر مهم لحياتنا طال انتظاره ... إلخ. ومشاهد الترقب والانتظار اليائس في حياة الإنسان كثيرة جداً، ولها صور متنوعة تتكرر في حياتنا باستمرار.

ولكن في مرات كثيرة فإن ما يزيد اليأس هو عندما يطول الانتظار. فكلما انتظرنا أكثر يزداد القلب اضطراباً وانزعاجاً وإحباطاً وإعياءً (كما حصل مع إبراهيم الذي انتظر موعد النسل). مع ذلك فإن كلمة الله تعلنا الانتظار، وأن الله "يصنع لمن ينتظره."

الشيء الوحيد في النهاية والذي يمكن أن ينهي دائرة الإحباط هو كلمة أمل يمكن أن نسمعها تختص بموضوع انتظارنا.

وهذا ينقلني إلى النقطة التالية:

 

iii.         رجاء لشعب يائس

رأينا أولاً حاجة الشعب اليائس، الذي أعلن يأسه أمام الله، ومن ثم رأينا أهمية انتظاره لله. ولكن يحوي هذا الأصحاح كلمات رجاء حقيقي للشعب الفاقد الأمل والذي يعيش اليأس في زمن اليأس.

كان وضع إسرائيل ميؤوس منه ولا أمل له، فمعاناة الشعب للسبي هي بسبب فشله. إضافة إلى أن الشعب لم يكن يملك القوة حتى يُحَرِّر نفسه. والشعب بسبب السبي أصبح يمر بأزمة إيمان وتصديق لله بسب رؤيتهم أن الله تركهم وتخلى عن محبته لهم!

لكن إشعياء يقدم في وسط هذه الصورة تأكيد على ارتباط الله الأصيل بشعبه. و(آ8-9) تقدم تحولاً في الصورة المظلمة واليائسة الموجودة في المرثاة، وتبدأ بالقول: و"الآن" أي بالرغم من خطايانا وفشلنا والإحباط الذي نعيشه، فإنك "أنت أبونا ... وأنت جابلُنا وكلُّنا عملُ يديك ... شعبُك كلُّنا." وهذه الكلمات تحمل السر الذي بناءً عليه يستطيع الشعب أن يثق بأن الله سيتدخل ويستجيب الصلاة. والتأكيد في هذه الكلمات هو على الحب الإلهي الأبوي غير الزائل والذي لا يتبدل ولا يتغير، وعلى الرحمة التي لا تنقطع. لذلك يستطيع الشعب أن يُصلي: "ليتك تشق السموات وتنزل." والله يشق السماوات وينزل!

تعلن هذه الكلمات قدرة الله وقوة سيادته على كل شيء في حياة شعبه، فقوله: "نحن الطين وأنت جابلنا"، يؤكد على قدرة الله في تشكيل المستقبل (مستقبلنا) وتغييره؛ وحتى في الحاضر أن يصنع شيئًا ليغيِّر واقع شعبه.

تحدثنا عن الانتظار؛ وأنه كلما طال الانتظار يصبح القلب أكثر اضطراباً وانزعاجاً وفي حالة إحباط وإعياء. "الرَّجاءُ المُماطَلُ يُمرِضُ القلب" (أم 13: 12). وقلنا إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينهي دائرة الإحباط هذه، هو كلمة أمل يمكن أن نسمعها "مياهٌ باردةٌ لنفسٍ عطشانةٍ الخبرُ الطَّيِّبُ من أرضٍ بعيدةٍ" (أم 25: 25). هذا ما يقوله في هذه الآيات، وهذه هي رسالة الميلاد التي نحن قريبون جدًا من الاحتفال بذكراها.

في وسط إحباطات الحياة المختلفة، بينما نعيش اليأس بسبب كل ما يدور من حولنا، يأتي الميلاد ليعيد لنا الرجاء والأمل، فمجيء الرب يسوع المسيح هو مجيء الأمل والحياة. فهو في ميلاده من العذراء مريم جاء حتى يحرر الإنسان ويُشرق بنور الأمل والرجاء في قلب الإنسان من خلال الخلاص الذي جاء حتى يصنعه والحياة التي جاء حتى يقدمها.

 

الخاتمة:

في الميلاد، شق الله السموات ونزل ... الإنسان يعاني ما يعاني من الشر بسبب الخطية؛ بسبب ترك الله والمسير في طريقه الخاص. ولكن حاجتنا، ونحن نقترب من ذكرى ميلاد يسوع المسيح، أن نقف مع أنفسنا ومع الله (الإله الحي الحقيقي) ونعترف بما يجب أن نعترف به، بأننا نعتمد رُبَّما كثيراً على أنفسنا وعلى أعمالنا الصالحة وعلى الإمكانيات المادية والقدرات البشرية من أجل تحسين حياتنا والوصول بها إلى مستوى رفيع.

علينا أن نتوب وبعدها أن نتكل على الله ونثق به وبعمله وأن ننتظره بثقة أنه لا بدَّ سيعمل في حياتنا: "لم ترَ عين إلهاً غيرَك يصنع لمن ينتظرُهُ."

يا أخوتي، حياتنا مرات كثيرة مش (مزبوطة)؛ مرات قلوبنا مش (مزبوطة)؛ هناك جفاف يحيط بنا من كل جانب، نحتاج إلى نهضة؛ نحتاج أن يُحيي الله فينا العظام الميتة؛ نحتاج إلى ملء من روحِهِ يتدفق فينا! لذلك نحتاج أن نصلي مع النبي: "ليتك تشق السماوات وتنزل" وتعيد ضبط الأمور في حياتنا.

هناك أمراض روحية وأمراض جسدية؛ وهناك فشل روحي في العالم من حولنا؛ وهناك عجز في شهادة الكنيسة في هذه الأيام في العالم؛ وهناك مجتمع غرقان في الشر؛ هناك بلدنا والبلاد من حولنا تعاني قلق وخوف وفشل وضغط وضعف؛ هناك تجاربنا الشخصية وهمومنا الشخصية وظروفنا المُتْعِبَة؛ هناك أشياء تستنزف طاقتنا ورجاءنا وخدمتنا؛ لذلك نحتاج أن نصرخ ونصرخ ونصرخ: ليتك يا ربّ تشق السموات وتنزل! تشفينا وترحم العالم من حولنا.

نحتاج من أجل ذلك أن نفتح قلنا لله، ونتواضع أمامه ونفحص حياتنا لنتأكد أننا لا نُهمل الحياة الروحية، وأننا نتوجه بقلوبنا وعيوننا وأشواقنا إلى الله.

هل عندك استعداد أن تفتح قلبك لله في هذا اليوم، وخصوصًا ونحن نقترب من ذكرى ميلاد ابن الله، حتى يعمل عمله الصالح في حياتك ويخلق كل شيء في حياتك جديداً؟ هل عندك استعداد أن تتوب عن الخطية في حياتك؟ هل عندك استعداد أن تبدأ حياة جديدة ومسيرة جديدة في حياتك؟

هذا هو الميلاد، وهذا ما جاء يسوع المسيح حتى يحققه، وهذا ما يجب أن يحصل في حياتنا!



أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلأ بي.

يوحنا 14 : 6